المادة    
يقول برتراند راسل عن نفسه: "ماتت أمي وأنا في الثانية من عمري، وكنت في الثالثة حين مات أبي -وهذه معلومات مهمة حتى نعرف حياة الإنسان الذي يعيش في مثل هذه الظروف- فنشأت في دار جدي لورد جون راسل الذي أصبح فيما بعد إيريل راسل، ولم يكد يجيئني أحد بنبأ عن والدي، وهما لورد وليدي أمبرلي، حتى لقد شاع في نفسي إحساس بأن يكون في الأمر لغز غامض؛ لقلة ما عرفته عنهما"
لم يعرف أمه ولا أباه، ولم يحدثه أحد عنهما، فنشأ أول ما نشأ وفي نفسه سؤال غامض: من أمي؟ ومن أبي؟ فاحتار وقال: لابد أن هناك لغزاً، وهذا معناه معروف عند أكثر الغربيين؛ فإن أكثر القادة والزعماء المشهورين أبناء غير شرعيين لا يعرف أحدهم أمه ولا أباه؛ وهذا الأمر يجهله كثير من الناس.
فـبرتراند راسل من عائلة مشهورة في بريطانيا، وكان يخاف أن يكون منسوباً إلى هذه العائلة، ولا يدري هل هو فعلاً من أبناء هذه العائلة، أم أنه متبنىً، وما كان أحد يحدثه عن هذا الموضوع، وهذه الأفكار بدأت تراوده وهو ما يزال صغيراً!
  1. الولد سر أبيه

    يقول: "فلما بلغت الحادية بعد العشرين أخذت في العلم بشيء من الخطوط الرئيسية في حياة أبي وأمي، وما كان لهما من رأي؛ فكم دهشت حين رأيتني قد اجتزت المراحل بعينها تقريباً التي اجتازها أبي في تطور عقله وشعوره". لقد عرف كيف عاش أبوه وكيف كانت حياة أبيه، وهو قد جاوز العشرين من عمره.
    يقول: "كان منتظراً لأبي أن يخوض الحياة السياسية جرياً على تقليد في عائلة راسل، وكانت له في ذلك رغبة، فدخل البرلمان لمدة سنة، لكنه لم يكن له من المزاج ولا من الرأي ما قد كان لابد له منهما إذا أراد لنفسه نجاحاً في السياسة، فما أن بلغ من عمره الحادية بعد العشرين حتى أحس في نفسه كفراً بـالمسيحية، وأبى أن يذهب إلى الكنيسة يوم عيد الميلاد" هكذا تحدث عن أبيه، ويقول: وأنا في نفس العمر وجد عندي هذا الشعور.
    يقول: "وقد جعل من نفسه تلميذاً فصديقاً لـجون ستيوارت مل " وهذا أيضاً فيلسوف مشهور، وله اهتمام بجانب المنطق، وهو من أكثر الغربيين كتابة في المنطق، ومحاولة لتغيير المنطق الذي وضعه أرسطو، يقول: "الذي علمت منذ أعوام قليلة أنه كان لي أباً في العماد"، يعني أن أهله أرادوا أن يعمدوه، على طريقة النصارى؛ فإنهم إذا ولد لهم مولود فإنه يُعمَّد؛ بمعنى يغطس في الماء بطريقة معينة، وتلاوات وقراءات معينة، إيذاناً بدخوله في النصرانية، فأي إنسان يدخل في النصرانية أو كان طفلاً، فإنه يعمد علامة على أنه نصراني، وهذا المعمَّد لابد أن يحضره ولي أمره، ولما كان أبو راسل ميتاً؛ أخذ جون ستيوارت مل الذي كان صديق أبيه، وعمَّده، فصار أباه في العماد؛ ولذلك كان بينهما علاقة روحية.
    يقول: "وكان أبي وأمي قد تبعا مل في آرائه، ولم يقتصرا في ذلك على الآراء التي صادفت عند الناس قبولاً نسبياً، بل جاوزاها إلى الآراء التي كانت عندئذ تصدم الناس في شعورهم". إن أمه وأباه كانا أيضاً ثوريين، وتعلما من مل وتقبلاً كل آرائه؛ بل دافعا عن آراء مل التي كان يستنكرها الأوروبيون آنذاك.
    قال: "مثل حق المرأة في الانتخاب وضبط النسل"، فالذي يراد له في العالم الإسلامي الآن أن يكون طبيعياً جداً كان في أوروبا قبل أقل من قرن أمراً يصدم شعور الناس ولا يتقبلونه، لكنهم بعد ذلك استمرءوه، ثم فرضوا علينا هذه الآراء، حتى أصبحت غير مستنكرة بل هي مقررة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي مع الأسف.
  2. راسل في بيت جده

    يقول: "أراد لي أبي أن أنشأ في الفكر حراً من القيود، وكذلك أراد لأخي، فأقام علينا وصيين عرفا بحرية التفكير" يعني: لما مات أبوه، أوصى على كل واحد من أولاده بوصي حر التفكير، أي: لا يؤمن بـالنصرانية ولا بأي دين.
    يقول: "لكن جدي وجدتي معاً سعيا لدى المحكمة المختصة أن تغض نظرها عن وصية أبي"، أي: أن الجد والجدة فسخا الوصية في المحكمة ليتوليا الإشراف عليه وتربيته هو وأخيه.
    يقول: "فكان نصيبي أن أنشأ على العقيدة المسيحية التي عليها الجدة والجد، ذلك أني انتقلت بعد موت أبي إلى منزل جدي، وكان ذلك عام (1876م)، وكان الجد عندئذ في الثالثة بعد الثمانين من عمره، وقد نال منه الضعف الشديد، فشملني بعطف متصل، ولم تبد منه علامة واحدة تدل على ضيقه بشغب الأطفال، لكنه كان أشد ضعفاً من أن يكون له في تكويني أي أثر مباشر"، فما أثر فيه جده ثم مات جده.
    يقول: "فتولتني بالتعليم جدتي التي ما فتئت تقدس ذكرى زوجها، فكانت أقوى أثراً في توجيهي من أي شخص آخر"، فأقوى من رباه جدته، فماذا كانت تعتقد جدته؟ وما هي الآراء التي أثرت بها عليه؟
    يقول: "غير أني منذ أن بلغت رشدي، جعلت أختلف معها في كثير من آرائها... كانت جدتي متزمتة العقيدة، صارمة الأخلاق" وهذه نقطة أخرى في تربيته؛ فجدته كانت متزمتة -كما يرى- صارمة "تزدري الترف ولا تأبه لطعام، تمقت الخمر وتعد التدخين خطيئة، وعلى الرغم من أنها قد عاشت حياتها ضاربة في مناكب الأرض حتى استكان جدي في مأواه، إلا أنها لم تكن بطبعها مقبلة على الدنيا، فكانت تقف من المال موقف من لا يكترث به، وهو موقف لا يستطيعه إلا الذين رزقوا منه ما يكفيهم، أرادت جدتي هذه لأولادها ولأحفادها أن يحيوا حياة نافعة فاضلة"... إلى أن يقول: "ولما بلغت الثانية عشرة من عمري أهدت إليَّ جدتي إنجيلاً ما زلت محتفظاً به إلى اليوم، وكتبت على الورقة التالية لغلافه بعض ما أحبت من آياته، فمنها هذه الآية: (لا يجوز لك أن تتبع كثرة الناس في فعل الشر)، وهذه الآية: (كن قوياً شجاعاً فاضلاً، لا تخف ولا يأخذنك اليأس؛ فربك المولى في رعايتك أينما ذهبت"، وهذه ترجمة بعض العبارات الموجودة في الأناجيل والرسائل.
    يقول: "فكان لهاتين الآيتين أثر عميق في حياتي"، أي أنه لما قرأها تأثر بها وأخذ يطبقها "ولا أحسب ذلك الأثر قد أصابه الوهن -بقي متأثراً بهاتين الآيتين- حتى بعد أن أمسكت عن الاعتقاد في الله"، يعني: حتى بعد ما كفر بالله لم يستطع أن يتخلى عن تأثير هاتين العبارتين اللتين يسميهما آيتين.
    وهذا يشير إلى قاعدة مهمة في التربية، وهي أن الإنسان لا يمكن أن يفصل عما تربى عليه، فهو قد كفر بالله، وأعلن إلحاده بهذا الرب وأنه لا يؤمن بهذا الرب الذي يقال: إن هذا الإنجيل كلامه، ومع ذلك يقول: إنه لم يستطع أن يتخلى عن تأثير هاتين العبارتين، وهذا يوضح لنا أشياء كثيرة، منها: أن الإنسان الغربي قد يتخلى عن كل ما في الإنجيل من تدين وصلوات وعبادات، لكن لا ينسى ما فيه من حديث عن الأمم الأخرى، أو احتقار للوثنيين وللمشركين ولأشباههم، فينشأ وهو يحتقر المسلمين على اعتبار أنهم وثنيون ومشركون، وإذا قرأ التوراة وتعلق بما فيها، فإنه ينشأ على محبة أرض الميعاد، وإن كان غير متدين، فقد يأتي ولو سائحاً، كما ترونهم اليوم لا يتدينون بدين، لكنهم يأتون إلى فلسطين سياحة؛ لأنهم تأثروا بهذا الشعور، الذي يجده كل من يقرأ التوراة عن هذه الأرض، وقداستها وأهميتها وعظمتها... إلخ.
    فالإنسان قد يكفر بأصل المبدأ، أما تأثيرات التربية فلا يستطيع أن ينفصل عنها.
  3. جدة راسل تعتنق مذهب الربوبيين

    ثم حصلت له نقلة في حياته، يقول: "تحولت جدتي في السبعين من عمرها إلى عقيدة الموحدين".
    الذين ينكرون ربوبية المسيح، الذين يقولون: (إن الإله واحد فقط، وأن المسيح بشر) يسمونهم موحدين، فبعضهم يثبت للكون خالقاً، وينفي ما تدعيه الكنيسة من أن الآلهة ثلاثة، ويعتقد أن الأب هو الإله، وأما الابن وروح القدس فمخلوقات، ويقول بعضهم: نكفر بكل الثلاثة، ونثبت للعالم خالقاً واحداً فقط، ليس هو هذه الثلاثة ولا واحداً منها، وذلك من شدة نفورهم من التثليث، وهذا المبدأ يسمى مبدأ الدايزم، أي: الذين يؤمنون بالربوبية، أي بالخالق فقط، وبعض المترجمين يترجمهم بـالربوبيين، وهي أولى من كلمة الموحدين؛ لأن الموحد من وحَّد الله وعرفه، لكن هؤلاء ربوبيون، يؤمنون بالربوبية؛ أي أن هذا الكون له رب خالق مدبر رازق، ليس هو ما يقوله رجال الدين، لكنهم بعد ذلك لا يؤمنون بشريعة له يتبعونها، واعتقادهم إنما هو اعتقاد ربوبية، كما كان المشركون في الجاهلية يعتقدون، وقد قال الله عنهم: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ))[الزخرف:9].
    يقول عن جدته: "وأخذت على نفسها في الوقت نفسه أن تنصر الحكم الذاتي لـإيرلندا "، وقضية الحكم الذاتي لـإيرلندا وعلاقة إيرلندا بالإنجليز لا تهمنا، لكن هذا يوضح لنا أن هذه العجوز -التي كانت في أول حياتها متزمتة متمسكة بالتقاليد، وتحرص على تربية حفيدها تربية دينية، والتي فسخت وصية أبويه من المحكمة هي وزوجها من أجل أن ينشأ على النصرانية، والعادة أن الإنسان في السبعين لا يتغير، بل ربما في الخمسين، وهذه في السبعين- قررت أن تتخلى عن كل الآراء القديمة، فأصبح رأيها في الدين عكس ما في الأناجيل، وعكس ما كتبت لحفيدها هذا، ورأيها في السياسة عكس ما يؤمن به الإنجليز بالنسبة لـإيرلندا، "وكذلك راحت تعارض الاستعمار في حرارة"، عكس ما يمكن أن يؤمن به أي إنسان وطني تعجبه سياسة بلاده.
    يقول: "ولقنتني وأنا بعد في السابعة أن أسيء الظن ببلادي في حروبها التي أثارتها في أرض الأفغان، وعلى قبائل الزولوا، وأما عن احتلال مصر فلم تحدثني عنه إلا قليلاً"، قالت له: الحروب التي تخوضها الإمبراطورية في أمريكا الوسطى وفي القارة الهندية، وفي غيرها حروب تافهة ولا معنى لها، أما العالم الإسلامي: كـمصر وبلاد الشام مثلاً، فلم تحدثه عنها؛ لأن هذه الأرض عندهم هي أرض الوثنيين وأرض المشركين، فمن الطبيعي أن تكون تحت سيطرة النصارى، حتى وإن كانت هي (جدة راسل ) قد تركت ديانتها.
    يقول: "لأن ما فعله جلادستون وقع من نفسها موقع الإعجاب" وجلادستون هو الذي رفع المصحف وقال: ما دام هذا الكتاب عند المسلمين، فلن نستطيع أن نسيطر عليهم، ولا أن نقضي عليهم، وكلامه حق لكن ما داموا يعملون به، ويؤمنون بما فيه.
    يقول: "وإني لأذكر الآن نقاشاً دار بيني وبين مربيتي الألمانية التي قالت لي عندئذ: إن الإنجليز ما داموا قد دخلوا مصر، فلن يخرجوا منها مهما تكن وعودهم، فرددت عليها في وطنية مشتعلة قائلاً: إن الإنجليز لم ينكثوا قط وعداً، دار هذا النقاش منذ ستين عاماً، لكن الإنجليز ما زالوا هناك" لما كتب هذا الكلام كان الإنجليز لا يزالون في مصر، يقول: أنا كنت أثق في الوعد الإنجليزي، وكنت -وأنا صغير- أصدق أن بلادي مخلصة وصادقة في وعودها وفية بالتزاماتها، لكن بتأثير جدته وبما رأى تبين له أنهم بالعكس، وأن الإنجليز لم يفوا بهذا الوعد.
    ونحن المسلمين وللأسف نضرب بهم المثل في الوفاء بالوعد، ونقول: وعد إنجليزي! وهم إذا وعدوا بشيء فيه مصالح لهم أوفوا به، وإذا كانت وعودهم في صالح المسلمين جعلوها وعوداً تلو وعود دون وفاء.
    فاتفاقية (سايكس بيكو) طبقوها تماماً وكذلك (وعد بلفور) طبقوه تماماً، ولكن إذا وعدونا بأن يساهموا في حل مشكلة في العالم الإسلامي، أو يقدموا مساعدات، فهووعد إنجليزي، لكن من النوع الآخر، وعود الثعالب والذئاب للدجاج والغنم، كما في قصيدة الرصافي يقول:
    والعهد بين الإنجليز وبيننا            كالعهد بين الشاة والذؤبان
    يقول: "كانت مكتبة جدي هي غرفة دراستي وموجهة حياتي، وكان فيها من كتب التاريخ ما أثار اهتمامي، لا سيما أن لأسرتي في التاريخ الإنجليزي مكاناً ظاهراً...". إلى أن يذكر أن جده وليم لورد راسل قد أعدم، وكانت هذه قضية مهمة.